الفقه المقارن
(1)
نسق المصاريف في الشريعة الإسلامية
ومقارنة المذاهب بعضها ببعض في هذا
بقلم حضرة ذو الفضيلة الأستاذ العظيم العلامة الشيخ أحمد إبراهيم
أستاذ الشريعة الإسلامية بالجامعة المصرية بكلية الحقوق
يراد بالنفقة ما يدفع به الإنسان مطلب غيره من أكل ومنزل وملبس وما ينضم بذاك من متطلبات المعيشة والحياة.
تمهيد،
– الكائنات ذات الحياة مدفوعة بغريزتها إلى إلتماس ما يحفظ لها وجودها في الدنيا وينميها ويقوم بجميع، ما هي في احتياج إليه تنفيذًا وردًا وجرًا وسدادًا يقودها إلى الصواب إلى ذاك الإلهام الإلهي والذهن المطبوع وما تُكسبه إياها المساعي والمشاهدات، وبالجملة فالقانون الطبيعي قاضٍ بأن يضطلع بـ كل حي كلفه بشخصه وألا تزر وازرة وزر أخرى لجميع مخلوق حي من وضْعه ما يغنيه،
إلا أن شاء الذهن الآدمي بعدما صرح ما قال الأمر الذي زاد به عن معدّل الفطرة الأولى وشاء الدين القويم والشرع الحكيم أن يكون لنوع الإنسان منظومة اجتماعي يبنى على التضامن العام بين أفراده وجماعاته لينتقل بالإنسان إلى وضعية أسعد وأهنأ من هذه الحالة الحرجة الشاملة المطلقة.
وآخر تلك النظم وجودًا وخيرها وأرشدها كليا هي النظم الإسلامية لو أخذت على وجهها السليم واسترشد الآخذون بها بهدي الرسول الكريم – عليه الصلاة والسلام – وصحابته الموفقين الأخيار وهدي أئمة الدين الإسلامي الذين فقهوا سر شرعه المتين ومقاصده وغاياته وطابقوا بين العلم والعمل طباق عالم ماهر ومتمرس يراعي المقامات ومتطلبات الظروف ويسير رِجلًا في مختلف إصلاحاته وتحسيناته حتى يبلغ إلى ما يستطاع الوصول إليه من الكمالات المقدورة للنوع الآدمي في الحياة الدنيا.
وسأذكر هنا واحد من تلك النظم القويمة وهو نهج المصاريف الواجبة على الإنسان لغيره من الأناسي والحيوان والأشياء فأقول:
2 – المصدر أن كل إنسان يقوم بحاجاته الحيوية نزولاً على حكم التشريع الطبيعي متى كان في مُكنته القيام بهذه الحاجات فإن عجز عنها عجزًا مجملًا أو جزئيًا ولقد أوجب الشرع الإسلامي الرحيم على غيره أن يمد إليه يد المعونة وينهض بشؤونه بمقدار ما هو في عوز إليه غلقًا لعوزه، يكلف هذا الأكثر قربا فالأقرب حتى ينتهي الموضوع إلى منظمة الأمة الجامعة لجميع أفرادها فيجب فوق منها إغلاق هذه الاحتياج من منزل ثروتها عملاً بذاك المبدأ النبيل مبدأ التضامن العام.
وقد استثني من ذلك المنشأ الكلي لقصد ديني أرقى واعتبارات أدبية أدق وأنبل قليل من الأشخاص إضافة إلى ذلك عدد محدود من، كالوالدين فيما يتعلق للأبناء والفتيات من الأبناء والأقارب ترفيهًا عليهم وصونًا لهم من الابتذال والكد والكدح في دعوة الرزق وأيضا وجّه الشرع العادل بأن من يحتبسه الإنسان لأجل صالح ترجع على المحتبس أن يقوم هو بنفقته عقوبةً وفاقًا، ومن هنا وجب على القرين أن يقوم بنفقة قرينته وكل حاجاتها المعاشية حتى تتفرغ لتطبيق عملها الذي هيأتها له يد القدرة الإلهية بهدوء واطمئنان، ولقد احتبسها القرين لنفسه خاصة وقيدها بقيد الزوجية فلا جريمة كان من اللازم أعلاه أن يقوم بكفايتها، وبسبب ذلك الاحتباس أيضًا وجبت نفقة المملوك على مالكه إنسانًا كان أو غير إنسان.
3 – وقد دراية بالاستقراء أن العوامل الغير سلبية للنفقة ثلاثة: وهي الزواج، والملك، والقرابة فالأولان يوجبانها للزوجة على القرين والمملوك على المالك دون الضد والـ3 يوجبها لجميع من القريبين على الآخر فيوجبها للمحتاج منهما على القادر فوق منها على ما سترى.
وهاك جملة القول في تلك المصاريف الثلاث أسوقها إليك مقتصرًا على أمهات المسائل التي اعتقاد لك الرأى الشرعية في إيجاب المصروفات وتقديرها وشروطها وما يسقطها دون الدخول في التفاصيل وبيَّن الأفرع المتشعبة.
نفقة الزوجية
4 – أجمع أئمة الشريعة حتّى نفقة القرينة واجبة لها على قرينها فهي تستحقها إجراء تأديبي احتباسه إياها لاستيفاء المعقود فوقه عملاً بهذا المصدر الكلي – جميع من كان محبوسًا بحق مقصود لغيره كانت نفقته فوق منه – لأنه احتبسه لينتفع به فوجب فوق منه القيام بكفايته ومن هذا المفتي والقاضي والحاكم وعموم عمال البلد وإضافة إلى الوصي وناظر الوقف ولاشك أن الحريم محبوسات أي مقصورات على أزواجهن، فكل قرينة هي مملوكة المنافع التي أذن الله بها لزوجها ويلزم من ذلك ألا تدع القرينة تذهب حيثما شاءت إصلاح للنسب
وتفرغًا لما يقتضي للزوج على قرينته شرعًا، وفي ذاك ما يحرم القرين من الاكتساب والسعي في مناشدة الرزق من دون رضاء قرينها فمن أمهل ذلك وجبت نفقتها فوقه سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة فقيرة أم غنية، صرح الله سبحانه وتعالى (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وصرح – عليه الصلاة والسلام – (اتقوا الله في الحريم فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم وغير ذاك من المستجدات الواردة في هذا، وقد جرى على ذاك الشغل وانعقد فوق منه الإجماع.
5 – والزوجة تستحق النفقة ابتداءً من الاتفاق المكتوب السليم على السليم من مذهب والدي حنيفة – رحمه الله – وإن لم تنتقل إلى بيت قرينها إن لم يطلب القرين انتقالها، فإن دعوة انتقالها فامتنعت بحق كامتناعها حتى تقبض معجل صداقها أو كانت عاجزة عن الانتقال نتيجة لـ مرضها فلا تسقط نفقتها، وإذا كان امتناعها بغير حق فلا نفقة لها لتفويتها الاحتباس اللازم أعلاها لزوجها من دون عذر وهو دافع استحقاقها النفقة، وفي حكاية عن والدي يوسف – اختارها القدوري – أن القرينة لا تستحق النفقة حتى تزف إلى بيت قرينها بل الفتوى على القول الأكبر.
6 – ويشترط في الاحتباس الجيد والمحفز للنفقة أن يكون أداة إلى مقصود مستحق بالعقد وهو المباشرة ودواعيها وعلى هذا إن كانت القرينة ضئيلة لا يتلذذ بها فلا نفقة لها إلا أن أبا يوسف صرح إذا أمسكها القرين في منزله للاستئناس بها وجبت أعلاه نفقتها.
واختير ذلك القول للفتوى وإذا لم يمكن التلذذ بالوطء لمانع بها إلا أن أمكن ببعض دواعيه، فالنفقة واجبة لها أيضًا على القرين وهذا لأن المعتبر في إيجاب النفقة هو الاحتباس لانتفاع مقصود من وطء أو من دواعيه أو استئناس على ما تتيح آنفًا أو مساندة.
إلا أن إذا كان العلة في تفويت التمتع من ناحيته هو فلا تسقط النفقة، والمصدر في هذا أن كل ما فوت الاحتباس لا من ناحية القرين فإنه يسقط النفقة وإلا فلا ومما يتفرع على ذاك:
( أ ) أن القرين لو أنه ضئيلًا لا يستطيع على الفور السيدات أو عنينا أو خصيًا أو مجبوبًا فإن القرينة تستحق النفقة في مختلف تلك الظروف إن لم يبقى ما يسقطها في المقابل وهذا لأن التسليم قد تحقق منها وهو كل ما بوسعها وإنما العجز من جانبه، وإضافة إلى لو أنه القرين محبوسًا ولو بدين فوقه لزوجته فلا تسقط نفقتها وإذا كان غير باستطاعته أن أدائه لأن فوت الاحتباس من جانبه.
(ب) إذا نشزت القرينة على قرينها فلا نفقة لها لأن فوت الاحتباس منها فإن آبت إلى منزل القرين ولو في أعقاب سفره آب الاحتباس فتجب لها النفقة حتى الآن عودها وأما إذا منعت ذاتها من القرين وهي في منزله فلا تسقط نفقتها لقدرة القرين على ما منعت ذاتها منه بمكنته وفضفاض حيلته، وإضافة إلى إذا إحتجزت ولو بغيًا سوى حيث كان القرين هو ما حبسها وإضافة إلى إذا كانت القرينة محترفة بفعل تعمله خارج البيت فإذا حرمها القرين من الذهاب للخارج وعصته فخرجت فلا نفقة لها ما استمرت خارجة.
(ج) وإذا غصبها غاصب فلا نفقة لها مرحلة بعدها عن منزل قرينها لأن فوت الاحتباس ليس من جانبه وهي في ذاك كالمحبوسة بغيًا.
وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد – رحمهم الله – على أن النفقة لا تجب على القرين بالعقد وإنما تجب فوقه بالتمكين من التمتع بشروطه وهاك جملة القول في هذا.
7 – ففي مذهب مالك – رحمه الله – لا تجب النفقة لغير المدخول بها سوى بتوافر جملة محددات وقواعد أن تدعو القرينة هي أو وليها أو وكيلها إلى الدخول بها عقب مضي زمن يتحضر فيه كل منهما لصاحبه عادةً وأن قدرته من ذاتها أي لا تمتنع من الوطء لو طلبها، وأن تكون مطيقة للوطء من دون عائق يحظر منه كأن تكون رتقاء (مثلاً) بل يتمتع بها مع وجود ذلك المانع وهو عالم به وأن يكون القرين صارمًا فلو دخل بها وهو ضئيل باستطاعته أن الوطء أو غير قادر فوق منه وهي بالغة أو غير بالغة وافتضها أو لم يفتضها
فلا نفقة لها أعلاه بل صرح الدسوقي في حاشيته على التفسير الضخم أنه قد صحح في الشرح القول بضرورة النفقة على الضئيل إذا دخل بها وإن كانت غير مطيقة أ هـ، ومن المحددات والقواعد أيضًا أن يكون جميع من الزوجين غير عليل أو عليلًا مرضًا خفيفًا يمكن برفقته التمتع فلو كان الداء صارمًا فقولان حتى لو وصل الداء بصاحبه حاجز التوجه والإشراف على الوفاة فلا نفقة لها في تلك الظرف ولذا كله قبل الدخول أما بعده فلا يشترط لضرورة النفقة شيء من ذاك على ما اختاره في التفسير وهو الجلي لكن تجب لها النفقة فوق منه من غير إشتراط.
8 – وتسقط نفقة القرينة لإعسار العسر القرين فلا تلزمه في هذه الوضعية وليس لها أن تطالبه بها طالما معسرًا فإن رجع له اليسر حتى الآن العسر وجبت فوقه من ابتداء يسره وما أنفقته على ذاتها زمن الإعسار لا تعود فوقه بشيء منه سواء أكان القرين في زمن إنفاقها متواجدًا أم غائبًا لأنها متبرعة في هذه الموقف، وإذا كانت القرينة قد أنفقت على قرينها شيئًا من ثروتها فترة عسرته فإنها تعود فوقه بمقدار المعتاد ليس إلا دون الزائد لأنه سرف فتعتبر متبرعة به، وقيل لا تعود فوق منه بشيء لأن الجلي أن ما فعلته من الإنفاق أعلاه هو من قبيل الرابطة، لأنه قرينها، ولذا بعكس إنفاقها على الغربي فإذا لم تبقى بينة أو زوجة تشير إلى إردائها العودة فوقه حمل المسألة على الرابطة، وهو حسن.
أقول، وأبلغ من ذلك ما حكاه في الهدي ونيل الأوطار عن ابن حزم من أنه إذا أعسر القرين وقد كانت قرينته موسرة فإنه ينبغي فوقها أن تنفق على ذاتها وعلى قرينها المعسر ولا تعود أعلاه بشيء الأمر الذي أنفقه إذا أيسر وسيأتي ذاك في مكانه.
ومما يسقط نفقة القرينة نشوزها ومن هذا حظرها إياه من استمتاعه بها وإضافة إلى إن إحتجزت نتيجة لـ مماطلتها أما لو أنه حبسها لغير هذا فلا تسقط نفقتها لأن حجبه من التلذذ ليس من جهتها وإضافة إلى إذا إحتجز قرينها ولو في دين لها فوق منه فلا تسقط نفقتها.
9 – وفي المذهب الجديد للشافعي – رحمه الله – وهو السليم يملكون: لا تجب النفقة بالعقد وإنما تجب بالتمكين الكامل يومًا فيومًا والترسيخ يكون بأن تعرض القرينة ذاتها على القرين ولو بأن تبعث إليه إني مسلمة نفسي إليك فإن كانت غير مكلفة فالتمكين يحصل بأن يعرضها وليها فوقه، ولو سلمت المراهقة ذاتها إلى القرين فتسلمها ولو بغير إذن وليها كان ذلك وافيًا لتحقق التوطيد وإضافة إلى لو إستلم المراهق قرينته ولو بلا إذن وليه، وإذا كان تسليمها ذاتها إلى قرينها ناقصًا كأن تسلمه ذاتها في الليلً لا نهارًا أو بالعكس أو في الجمهورية الفلاني أو في البيت الفلاني ليس إلا فلا نفقة لها لعدم تمام الترسيخ.
عشرة – ويسقط نفقتها فوات التمتع بها نتيجة لـ منها كنشوزها في أعقاب الترسيخ ولا ترجع نفقتها حتى تعرض ذاتها على القرين ثانيًا أو يعرضها وليها فوق منه ولو بإرسال رسول أو كتاب فإذا كان القرين غائبًا ورفعت الموضوع هي أو وليها إلى قاضي بلدها مظهرة التسليم لزوجها فإنه يرسل إلى قاضي بلد القرين ليحضره وليعلمه بالحال، وايضا تسقط نفقتها بامتناعها من التوطيد ولو في مقر عينه القرين، وهذا لعدم التوطيد الكامل وأيضاً تسقط نفقتها لو غصبها غاصب لخروجها عن قبضة القرين وفوات الاستمتاع بالكلية
وإضافة إلى لو إعتقلت ولو بغيًا مثلما لو وطئت بشبهة فاعتدت، ولا يسقط نفقتها قيام عذر بها يمكن برفقته الاستمتاع بها من عدد محدود من الوجوه كرتق وقرن ومرض وحيض ونفاس وجنون ولو كان ذاك مقارنًا تسليمها ذاتها لزوجها وهذا لأن تلك الأعذار بعضها يطرأ وينقضي وبعضها مستديم وهي معذورة فيها وقد حصل التسليم الذي في استطاعتها فإن كانت القرينة ضئيلة لا تحتمل الوطء لتعذره فلا نفقة لها وهذا لفوات الاستمتاع بها بالكلية لمعنى فيها، أما لو كان القرين طفلاً ضئيلًا وقرينته عارمة فإنها تستحق النفقة فوقه لعرضها على وليه وإن لم يتأتَ من قرينها الوطء حيث لا حظر من جهتها.
11 – وإضافة إلى في مذهب أحمد – رحمه الله – لا تجب النفقة بالعقد ولو تساكن الزوجان زمنًا طويلاً حتى تلقى ذاتها إلى القرين أو يسلمها إليه وليها أو تبذل ذاتها إليه أو يبذل هذا وليها بذلاً كامِلًا فإذا كان البذل ناقصًا كتسليمها ذاتها في بيتها دون غيره من عموم البيوت أو في بلدها أو صوب ذاك لم تستحق شيئًا من النفقة بل تكون قد اشترطت هذا في الاتفاق المكتوب، ويشترط أيضًا لضرورة نفقتها أن تكون مطيقة للوطء أي طفلة تسع سنوات فأكثر سواء أكان القرين جسيمًا أم ضئيلًا يستطيع الوطء أو لا يستطيع لمانع فيه،
ولا يسقط نفقتها تعذر وطئها لمرض أو نفاس أو حيض أو رتق أو قرن أو لكونها نضوة الخلق أي ضعيفة أو وقع بها شيء من ذاك وهي لدى القرين، ولذا لأن التمتع بها جائز في الجملة ولا تفريط من جهتها،
ولو بذلت السليمة التلذذ بها دون الوطء فلا نفقة لها لعدم عذرها وإضافة إلى لو امتنعت من التسليم وهي سليمة ثم إبراز لها الداء فبذلت ذاتها للزوج فلا نفقة لها ما ظلت مريضة جزاء لها بمنعها ذاتها عن قرينها في وضعية هو متمكن من التلذذ بها فيها وبذلها في تجاهها، ونشوز القرينة وعدم تمكينها قرينها من وطئها توطيدًا كاملاً يسقط كل فرد منهما نفقتها، والقول في ذاك مثلما توفر في مذهب الإمام الشافعي، وبالجملة فكل ما يحظر استمتاعه بها نتيجة لـ لا من جانبه يسقط نفقتها.
إنتباه
12 – الأمر الذي توفر يتبين لك أن النفقة إجراء عقابي الاحتباس لدى والدي حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – وفوق منه لو أنه الاتفاق المكتوب تالفًا فلا نفقة للزوجة لعدم الاحتباس وإضافة إلى لا نفقة لها في متعددة النكاح التالف، وقد نقل في المادة (172) من الظروف الشخصية أن التي تزوجت بدون شهود لها النفقة، وذلك منقول عن الهندية عن الملخص، ولفظها (وأجمعوا أن في النكاح بدون شهود تستحق النفقة)، ونظر فيه الحموي وغيره لأنه من شخصيات التالف والفاسد لا تجب فيه النفقة وهذا أفاد في رد المحتار – الواضح إن الصواب (لا تستحق) بدون النافية حيث لا احتباس فيه أهـ، ولم يتعقبه الرافعي في عزمه.
وأقول لا يوجد شك إن نُظم المذهب في نفقة القرينة تؤيد ما قاله العلامة ابن عابدين، وصرح في مكان أجدد من رد المحتار لو أنفق على قرينته ثم إتضح فساد النكاح بأن شهدوا بالرضاع مثلاً وفرق بينهما ففي الذخيرة له العودة بما أنفق بفرض القاضي لأنه وضح أنها أخذت بغير حق، ولو أنفق من دون فريضة لا يعود بشيء أهـ أي أنه يحتسب متبرعًا.
13 – ومذهب الشافعي – رحمه الله – في تلك الشأن هو عدم ضرورة النفقة لها لا في حال اجتماعهما ولا عقب الافتراق وإن كانت حاملاً، إلا أن لو أنفق فوقها بشكل فعلي ثم فرق بينهما فلا عودة له فوق منها بما أنفق إلا أن يجعل ما أنفقه في اجتماع استمتاعه بها وإتلافه إمتيازاتها سواء أكانت حاملاً أم حائلاً.
14 – وأما مذهب أحمد – رحمه الله – فهو أن النفقة لا تجب في النكاح التالف لأن وجود الاتفاق المكتوب كعدمه وهذا إن لم تكن القرينة حاملاً فإن كانت حاملاً وجبت النفقة للحمل وأنه إذا أنفق فوقها في النكاح التالف فلا يعود فوقها بشيء الأمر الذي أنفق سواء أكانت النفقة قبل مفارقتها أم بعدها لأنه لو كان عالمًا بعدم الوجوب فهو متطوع للإنفاق وإذا لم يكون عالمًا فهو مبالغ فيه فلا يعود بشيء.
15 – وأما مذهب مالك – رحمه الله – فهو على ذلك التفصيل المدخول بها في نكاح تالف يدرأ الحد كمن تزوج ذات محرم جهلاً وإضافة إلى الموطوءة بشبهة إذا كانت كلتاهما لا قرين لها فإن حملت إحداهما من الواطئ فلها أعلاه النفقة والسكنى لو أنه لا يدري بالحرمة فإن دراية بالحرمة دونها فلها السكنى ليس إلا لأنها محبوسة على إثره فإن علمت هي أيضًا فهي زانية لا سكنى لها ولا نفقة، وإن لم جلَد منه فالسكنى فوق منه والنفقة فوقها ولو كانت ذات قرين ولم يكن قرينها قد دخل بها فإن حملت من الواطئ فسكناها ونفقتها فوق منه وإن لم جلَد فعليه السكنى فحسب وأما النفقة فهي أعلاها لا على الواطئ على الراجح،
وأما لو أنه قرينها قد دخل بها فنفقتها وسكناها على قرينها حملت أم لا، لكن ينفي القرين حملها بلعانٍ فلا نفقة لها أعلاه ولها السكنى على القرين ما لم ينضم الحمل بالواطئ الآخر فإن لحق به فالنفقة والسكنى حينئذٍ على ذاك الواطئ الغالط، ولو كان ذاك الواطئ الغالط قد أنفق فوقها في الظروف التي لا تجب فوق منه نفقتها فيها بقضاء أو بغيره إنشاءً على الجلي، ثم ثبت له الغلط فهل يعود فوقها بما أنفق ؟ الجلي أنه يعود فوق منها بذاك إنشاءً على ذاك المصدر الذي حكوا اتفاقهم فوقه، وهو أن من تنفيذ مالاً من إنسان يلزم له بقضاء أو غيره ثم استقر أنه لم يكن يلزم له شيء أنه يرد ما أخذه. أهـ
ثناء النفقة
16 – اختلف علماء مذهبنا في عرفان النفقة على ثلاثة أقوال:
الأكبر: أنها تقدر بمثابة شأنها يسرًا وعسرًا، حكي هذا في الخانية ومستند ذلك القول جلي حوار هند المقبل.
الـ2: أنها تقدر بمثابة حال القرين مع دفع البصر عن ظرف القرينة فلو كان موسرًا فالواجب فوق منه نفقة الأيسر وإذا كان معسرًا فنفقة الإعسار وذلك القول هو جلي القصة واتخاذ به أبو الحسن الكرخي وعديد من مشايخنا، ورجحه في المبسوط والبدائع
ونقل في رد المحتار عن التحفة أنه السليم وبه أفاد الشافعي – رضي الله سبحانه وتعالى عنه – وهو المعمول به هذه اللحظة في محاكمنا التشريعية بموجب المادة السادسة 10 من الأمر التنظيمي بقانون رقم (25) سنة 1929 ونصها:
(تقدر نفقة القرينة على قرينها وفق حال القرين يسرًا وعسرًا أيما كانت ظرف القرينة).
وقد عللوا ذلك القول بأن المرأة لما زوجت ذاتها من معسر ولقد قبِلت بنفقة المعسرين فلا تستوجب على قرينها ما هو فوق مإستطاعته واستدلوا بقوله هلم (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا مقبلَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا مقبلَاهَا).
الـ3: أنها تقدر بمثابة حالهما جميعًا من يسر وعسر وإليه ذهب الخصاف ورجحه ذو الهداية وتحدث إنه الفقه وبه إنتهاج أصحاب المتون والشروح فكانت فوق منه الفتوى وأعلاه الجهد حتى صدر هذا القرار بقانون المشار إليه آنفًا، ووجه ذاك القول ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة – رضي الله سبحانه وتعالى عنها – إن هند فتاة عتبة قرينة والدي سفيان تحدثت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي سوى ما أخذت منه وهو لا يدري فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. أهـ.
17 – وعلى ذاك لو أنه الزوجان موسرين فللزوجة نفقة الأيسر وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار ولو بلغ الشأن إلى أسفل الكفاية وذلك باتفاق، ولو كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا فنفقة الوسط فإذا كان القرين هو الموسر أنفق أعلاها دون نفقة الأيسر وفوق نفقة الإعسار متبعًا في هذا ما فوقه العرف، أما لو كان القرين معسرًا والزوجة موسرة ولقد صرحوا إنه يقدر أعلاه لها نفقة الوسط ثم ينفق بمقدار وسعه والباقي يكون دينًا فوقه إلى الميسرة، وظاهر مذهب الإمام أحمد ايضا وقد قال به في التوزيعات فقال نقلاً عن الترغيب ما نصه: إنه يفرض للموسرة مع الفقير أصغر كفاية والباقي دين في ذمته، إلا أن حكي في الأفرع أيضًا في مكان أحدث قولاً بتداعي صعود الأيسر والتوسط في ظرف إعسار القرين، ومثله في كشاف القناع نقلاً عن المبدع.
ولذا القول هو المرخص في مذهب الإمام مالك على ما حكاه الدسوقي في حاشيته على التوضيح الهائل صرح: اعلم إن اعتبار حالهما لا بد منه سواء تساويا غنى أو فقرًا أو كان أحدهما غنيًا والآخر فقيرًا بل اعتبار حالهما لدى تساويهما فقرًا أو غنى بديهي وأما لدى اختلافهما فاللازم ظرف وسطى بين الحالتين، وحينئذٍ فنفقة الفقير على الغنية أزيد من نفقته على الفقيرة مثلما أن نفقة الغني على الفقيرة أصغر من نفقته على الغنية، ذلك هو الموثق، ثم حكي قولاً أجدد من أن اعتبار حالهما
إذا تساويا فإذا ارتفع شأنها اعتبر وسعه ليس إلا وإن نقصت وضْعها عن وضْعه اعتبرت ظرف وسطى بين الحالتين أهـ أقول فهذا القول الـ2 صريح في أن ما ارتفع على وسعه لا يكون دينًا في ذمته، وجمع الأستاذ الدردير – رحمه الله – بين القولين في شرحه جمعًا لطيفًا فقال: لو كان فقيرًا لا مقدرة له سوى على أسفل كفاية فالعبرة بوسعه فحسب ولو كان غنيًا ذا حجم وهي فقيرة أجيبت لحالة أعلى من وضْعها ودون وضْعه، ولو كانت غنية ذات مقدار وهو فقير سوى أنه له تمكُّن على أرفع من وضْعه ولا مقدرة له على وضْعها رفعها إلى الموقف التي يقدر فوقها أهـ وبالجملة فإنه يعد وسعه وحالها.
18 – وأقول إن ما ذهب إليه الخصاف – رحمه الله – من أنه لو كان القرين موسرًا والزوجة معسرة ينفق فوقها نفقة الوسط قول حسن عملاً بالعرف وقد أفاد ابن القيم – رحمه الله – في الهدي: لم يقدر رسول الله – عليه الصلاة والسلام – في النفقة معدلًا محددًا ولا ورد عنه ما يبرهن أن تقديرها وإنما رد الأزواج فيها إلى العرف أهـ.
ولا مخالفة بين ذاك القول والآية الكريمة لأن القرين ينفق من وسعه ولا يكلف فوق طاقته إلا أن ما قاله الخصاف – رحمه الله – من أن القرين لو كان معسرًا فإنه ينفق بمقدار وسعه والباقي دين فوقه إلى الميسرة قول لا دليل فوقه لا من الكتاب ولا من السنة إلا أن هو الأمر الذي يكاد يصادم مقال الآية الكريمة، وعصري هند صريح في أنها كلفت أن تأخذ من ثروة والدي سفيان كفايتها وكفاية أولادها بالمعروف فلم يكلف أبو سفيان بما هو فوق تمكنه لأن الإتخاذ إنما كان من ثروته الذي هو في ملكه وقت أن كلفت بالإتخاذ فأين الدليل على ما صرح الخصاف في تلك الصورة الرابعة ؟
لا يقال إن القرين لو أنه معسرًا كانت نفقة القرينة دينًا في ذمته إلى الميسرة لأن دليل ضرورة النفقة في ذمته حاضر وهو احتباسها فوجبت فوق منه نفقتها على حسب العرف لا يقال ذاك لأنه في مصدر النفقة وأما مسألتنا تلك فالمفروض فيها أنه قادر إلى أن ينفق أعلاها على حسب وسعه لاغير فكيف يخاطب بأكثر من ذلك ؟ فلا الآية توجب فوق منه ذاك ولا المحادثة من ادعاه فعليه الدليل.
وبالجملة فالصواب هو الذي قاله الأستاذ الدردير في شرحه على خليل وهو الذي ذكرناه آنفًا وهو اختيار القاضي من الحنابلة من أن اهتمام حال القرين في النفقة مشروطة بمقدار القرينة على ما قام بتكليف به وقت أن قام بتكليف به وذلك هو المعلوم والمشابه لما أتى به الكتاب والسنة، خسر أجدر الإمام مالك – رحمه الله سبحانه وتعالى – كل الإحسان في تصريحه بتساقط نفقة القرينة عن قرينها في حال عسرته ثم هي بالخيار فإن شاءت المقام بصحبته على هذا فعلت وإلا فارقته.
إلزام النفقة دراهم
19 – إيجابي الاتفاق المكتوب السليم أن إستقبل المرأة ذاتها إلى القرين في منزله وفوق منه لها جميع ما يكفيها وفق حالهما أو وضْعه على ما توفر من تغذية وشراب وكسوة وفرش وكل ما يقتضي من مورد رزق الزوجية مثلما أن سكناها واجبة فوقه وليس أعلاها شيء من هذا فهل يجوز للقاضي أن يفرض لها دراهم بمقابل تلك المطلوبات عامتها أو بعضها ؟
صرحوا يجوز له ذاك على إشتراط أن يراعي في تقديره تبدل التكاليف وحال الزوجين أو القرين، وعلى ذلك المجهود في المحاكم القانونية المصرية فإن النفقة تفرض فيها مستديمًا من النقود للطعام والكسوة وبدل المجأ إذا لم يكن القرين قد هيأ لزوجته سكنًا تشريعيًا ولا يشترط في إلزام النقود رضا القرين بهذا لكن يقتضي بها إنفاذًا وقد يكون ذاك أرفق به وبزوجته ولا سيما في المدن.
إلا أن أفاد ابن القيم – رحمه الله – في الهدي ما نصه:
وأما إنفاذ الدراهم فلا مصدر له في كتاب الله ولا سنة رسوله – عليه الصلاة والسلام – ولا عن واحد من من الصحابة – رضي الله سبحانه وتعالى عنهم – البتة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا مقال فوقه واحد من من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من أئمة الإسلام إلخ ما صرح وقد نقله عنه في التوزيعات خلاصةًا.
أقول قد نقل في المبسوط عن محمد – رحمه الله – أنه كمية نفقة المعسر بأربعة دراهم في شهرياً لكنهم نصوا إلى أن ذلك ليس بلازم لأنه إنما قدره على ما شاهد في وقته، وقالوا على القاضي في جميع زمن أن يعد الكفاية بالمعروف، وظاهر ذلك هو أن ثناء النفقة بالدراهم ممكن مطلقًا سواء أكان ثمة وجوب تدعو إلى ذاك أم لا وسواء أقر القرين بذاك أم لا، وقد جرى الجهد بذاك إلى حالا، وحيثًا ينتقض ما قاله ابن القيم – رحمه الله – فيما يتعلق لمذهب والدي حنيفة – رحمه الله – لأن قول محمد قول لإمامه على ما تم اتخاذ قرار في رسم المفتي، والله أدري.
ذلك وإني قد صرحت النسبة بين أقوال الإمام وصاحبيه على أنهى خطاب في كتابي العظيم في المرافعات التشريعية.
عشرين – والحاصل على ما ذهب إليه غير الحنفية من الحنابلة والشافعية والمالكية وآخرين أن القاضي ليس لديه أن يفرض نظير النفقة الواجبة دراهم سوى باتفاق الزوجين فلا يجبر الممتنع منهما على هذا لأن المقاومة بغير الرضا لا تجوز بالإجماع إلا أن إن دعت الاحتياج إلى ذاك فلا إيذاء به صرفًا للحاجة، موضوع على هذا في التوزيعات وكشاف القناع والمهذب والروض والشرح الهائل وحاشية الدسوقي.
ومن مقار الاحتياج ما نقله في توثيق رد المحتار عن حاشية التحفة للشبراملسي أفاد: سئل شيخنا الرملي عن امرأة لم يحضر عنها قرينها وترك بصحبتها أبناءًا صغارًا ولم يدع تملك نفقة ولا إستقر لها منفقًا وضاعت مصلحتها ومنفعة أولادها وحضرت إلى والي شافعي وأنهت إليه ذاك وشكت وتضررت وطلبت منه أن يفرض لها ولأبناءها على قرينها نفقة ففرض لهم عن نفقتهم إنتقادًا محددًا في يومياً وأذن لها في إنفاق هذا أعلاها وعلى أولادها وفي الاستدانة أعلاه لدى تعذر الإتخاذ من ثروته والعودة فوقه بذاك وقبلت هذا منه فهل الإلزام والتقييم صحيح ؟
وإذا حجم القرين لزوجته بدل كسوتها فوق منه حين الاتفاق المكتوب إنتقادًا مثلما يكتب في ملفات الأنكحة ومضت على ذاك فترة وطالبته بما معدل لها عن هذه الفترة وادعت فوق منه بهذا لدى والي شافعي واعترف به وألزمه به فهل إلزامه صحيح أولاً ؟ وهل إذا لقي حتفه القرين وترك قرينته ولم يقدر لها كسوة وأثبتت وسألت الوالي الشافعي أن يقدر لها عن كسوتها الفائتة التي حلفت على استحقاقها إنتقادًا وأجابها لذا وقدره لها مثلما يفعله القضاة حالا فهل له ذاك أو لا ؟ وهل ما يفعله القضاة من الإنفاذ للزوجة والأبناء عن النفقة أو الكسوة لدى الغيبة أو الحضور إنتقادًا صحيح أولاً ؟
(فأجاب: عرفان الشافعي في المسائل الثلاث صحيح حيث الاحتياج داعية إليه والإدارة تقتضيه فله فعله ويثاب فوق منه إلا أن يقتضي فوق منه أهـ ثم أفاد في التقرير فعلى ذلك لا ضد بين المذهبين في ثناء النفقة إنتقادًا أهـ.
وأقول لا يخفى إن القصد من إنفاذ النفقة للزوجة إنما هو صرف حاجتها فليكن ذاك في مختلف زمان وموضع بأيسر سبيل نظرًا إلى المنفعة في نفسها من دون تعمق في التدقيقات الفقهية وحرص صارم على تنفيذ ما يتراءى من النُّظُم حيث من الممكن أن يكون للمسألة الجزئية الواحدة زيادة عن اعتبار فرد فتتنازعها النُّظُم والمنابع وقد يتشابه المسألة ففي مثل ذاك ينبغي توجيه البصر في توثيق الحكم إلى الباعث التشريعي ليحقق غاية الشارع بما هو أسفل إلى تحقيقه من الأساليب الممكنة.
توابع نفقة القرينة
21 – من بين النفقة الواجبة للمرأة على قرينها نفقة خادمها [(1)] إذا اقتضى الوضع ذاك، وجملة القول في تلك الموضوع على ما ذهب إليه أصحابنا – رحمهم الله – أن القرين لو أنه موسرًا فعليه ما يكفي خادم قرينته من النفقة وفق العرف شريطة أن يكون الخادم مملوكًا لها ملكًا كامِلًا ومتفرغًا لخدمتها فلو لم يكن الخادم في ملكها أو كان له وظيفة غير خدمتها أو لم يكن له مهنة إلا أن لم يخدمها فلا نفقة له على قرينها حيث نفقة الخادم إنما تجب على القرين بإزاء الوظيفة الخدمية من طهي وخبز وعموم أفعال المنزل داخلاً وخارجًا فإذا امتنع الخادم عن هذا لم تجب النفقة وهذا على عكس نفقة القرينة لأنها إجراء تأديبي احتباسها على ما تمنح.
وإذا لم يكن للزوجة خادم مملوك فإن شاء القرين استأجر أو استعار لها من يخدمها وإن شاء أمر لها حاجاتها بشخصه، وإذا أراد القرين إخراج خادمها المملوك لها من منزله وأحضر لها خادمًا من لديه فلا يقبل ذاك منه سوى برضاها لأنها قد لا تتهيأ لها المساندة بخادم القرين بل لو كان القرين يتضرر من خادمها بأن كان يختلس من تكلفة ما يشتريه أو كان غير مأمون على أمتعة منزله أو كان مفسدًا فالزوج يعذر في إخراجه فله أن يستبدل به خادمًا أمينًا من لديه ولا يتوقف هذا على رضاء القرينة.
ولو أنه له أبناء لا يكفيهم خادم فرد إنفاذ أعلاه نفقة خادمين أو أكثر وفق الاحتياج لأن هذا من جملة نفقتهم الواجبة لهم فوق منه.
وإذا زفت إليه بخدم عديد استحقت نفقة الجميع حيث المعتبر شأنها في منزل أبيها لا وضْعها الطارئ في منزل قرينها وذلك القول حكاية عن والدي يوسف اختيرت للفتوى وأما على جلي الحكاية فالواجب نفقة خادم شخص مطلقًا، وثم أقوال أخرى في الموضوع.
22 – ولا تقدر نفقة الخادم بالنقود إلا أن يفرض له ما يكفيه بالمعروف إلا أن لا يصل به نفقة القرينة لأنه موالي لها فتنقص نفقته عنها وليتبع في ذاك ما جرى به العرف.
وذلك كله لو كان القرين موسرًا قادرًا على إخدام قرينته فإذا كان معسرًا فلا تجب أعلاه نفقة خادم لها لكن الضروري فوقه في تلك الموقف أسفل الكفاية وهي قد تكتفي بخدمة ذاتها.
23 – وأما على مذهب الشافعي – رحمه الله – ولقد أفاد في المهذب لو كانت المرأة ممن لا تخدم ذاتها بأن تكون من ذوات الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لكلامه سبحانه وتعالى (وعاشروهن بالمعروف)، ومن العشرة بالمعروف أن يعيش لها من يخدمها ولا ينبغي لها أكثر من خادم فرد لأن المستحق خدمتها في ذاتها وهذا يحصل بخادم فرد ولا يمكن أن يكون الخادم سوى امرأة أو رحمًا محرمًا، وإن صرحت المرأة أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر القرين فوقه لأن الغاية بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه، وهذا لا يحصل بخدمتها، وإن صرح القرين أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان أحدهما أنه يلزمها الرضاء به لأنه تقع الكفاية بخدمته والـ2 لا يلزمها الرضاء به لأنها تحتشمه ولا تستوفي حقها من الوظيفة الخدمية.
ولو كان الخادم مملوكًا لها واتفقا على خدمته لزمته نفقة له دون ما يقتضي للزوجة على ما جرى به العرف على حسب وسعه أهـ خلاصةًا.
24 – ومذهب أحمد – رحمه الله – في ذاك كمذهب الإمام الشافعي فلا طلب إلى عائد ما قيل فيه تجريمًا للتكرار غير أنهم نصوا على أساس أنه يلزمه مؤنسة لها إذا دعت الاحتياج إلى هذا، وأحسب أن المذاهب الأخرى لا تأبى ذاك لأنه من باب المعاشرة بالمعروف وهي مأمور بها شرعًا، وانظر ما قاله في الدر المختار وما بحثه في رد المحتار في تلك الموضوع ففيه تفصيل حسن.
25 – وعلى ما ذهب إليه مالك – رحمه الله – أن القرين لو أنه ذا سعة وقرينته ذات حجم ليس وضْعها الوظيفة الخدمية أو كان هو ذا حجم تزري به منفعة قرينته وجب أعلاه أن يجيء لها بخادم ولو بالأجرة وإذا لم يكفِ خادم فرد أنى لها بأكثر وفق الاحتياج على القول السليم، وقيل لا يلزمه أكثر من خادم فرد
، وإذا طلبت القرينة أن خادمها هو ما يخدمها ويكون لديها وطلب القرين أن يخدمها خادمة فإنه يحكم لها بخادمها لأن المساندة لها وحينئذٍ يقتضي القرين أن ينفق أعلاه، إلا أن إذا دلت الحيثيات على ريبة في خادمها تكون ضارة بالزوج في الدين أو الدنيا فإنه يحكم بخادم القرين ولا تجاب إلى طلبها، ولو كانت القرينة أهلاً للإخدام إلا أن القرين فقير أو لم تكن أهلاً له بأن كانت من لفيف الناس والزوج ليس ذا حجم وجبت فوقها المنفعة الباطنة في نطاق البيت بمقدار حاجتها هي وقرينها ليس إلا دون أبناءه ووالديه وضيوفه ولا ينبغي أعلاها شيء خلف ذاك فلا تجبر إلى أن تتكسب لزوجها من غزل أو خياطة أو غير هذا لكن تتطوع من تلقاء ذاتها بشيء من ذاك.
26 – وتتميمًا للفائدة أذكر هنا ملخص ما قاله ابن القيم -رحمه الله – في وظيفة خدمية القرينة لزوجها صرح:
اختلف الفقهاء في هذا فأوجبت طائفة من السلف والخلف خدمتها له في اهتمامات المنزل وبالغ بعضهم في هذا فأوجب فوقها خدمته في جميع الأشياء، ومنعت طائفة ضرورة خدمته فوق منها في شيء ما، صرحوا لأن إتفاق مكتوب النكاح إنما اقتضى التمتع لا الاستعمال وبذل المنافع وما ورد من الأحاديث من أن فاطمة – رضي الله سبحانه وتعالى عنها – كانت تقوم بالخدمة المنزلية لزوجها علي – رضي الله سبحانه وتعالى عنها – وأن أسماء طفلة والدي بكر – رضي الله سبحانه وتعالى عنهما – كانت تقوم بجميع ما يقتضي لزوجها الزبير بن العوام – رضي الله سبحانه وتعالى عنه – من المنفعة فإنما كان هذا على طريق التطوع ومكارم الأخلاق لا على طريق الوجوب والتكليف، واحتج من أوجب المساندة بأنه من المنكر ترفيه المرأة وقيام الرجل بجميع ما يقتضي لها من الوظيفة الخدمية، والله هلم يقول: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)،
ويقول (الرجال قوامون على الإناث)، وإذا لم تخدمه المرأة لكن كان هو الخادم لها انعكس المسألة وقد كانت هي القوامة أعلاه، وقالوا أيضًا إن المهر في مؤتمر التمتع وذلك معدل مشترك بينهما فكل من الزوجين يتمتع بالآخر فإذٍ تكون نفقتها وكسوتها في مواجهة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج فكان فوقه الملكية في المهر والنفقة لأنه هو القادر على الدخل عادةً وأعلاها في مواجهة هذا المساندة المنزلية وما جرت العادة أن تقوم به الحريم لأزواجهن وبهذا ينهي التعادل بينهما. وقالوا أيضًا إن العقود المطلقة إنما تنخفض على العرف – والعرف هو مساندة المرأة وقيامها بمصالح المنزل الداخلة.
وأما قول الفرقة الرياضية الأكبر إن فاطمة وأسماء رضوان الله عليهما لم تكن المنفعة واجبة عليهما خطأ، لأن فاطمة لما شكت إلى أبيها نداءات الله وسلامه فوق منه ما إستلم من مشقة الوظيفة الخدمية لم يشكها [(2)] فلم يقل لعلي لا منفعة فوق منها لكن المساندة عليك أنت وهو – عليه الصلاة والسلام – لا يحابي في الحكم واحد منًا، وايضا لما رأى أسماء وهي لائحة بخدمة قرينها ضِمن البيت وخارجه لم يقل لزوجها لا منفعة لك أعلاها وأن ذاك بغي إلا أن أقره على استعمالها وأقر أصحابه على استعمال أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية أهـ، وقد علمت الأمر الذي توفر توسط مذهب مالك – رحمه الله – في تلك الشأن.
27 – ومما يتصل بهذا ما ذهب إليه أصحابنا – رحمهم الله – من أنه لا حق للزوج في شيء من جهاز قرينته وليس له أن يجبرها على فرش أمتعتها ولا تقديم شيء منها له أو لا ضيافة وإنما له الانتفاع بها بإذن منها، ولو اغتصب شيئًا من الجهاز حال قيام الزوجية أو في أعقاب انحلال عقدتها فلها مطالبته به أو ببدله له من مثل أو سعر إذا استهلكه أو هلك يملك لأن يده فوق منه يد غاصب، وكل ما يقتضي للمنزل من فراش وغيره مقتضي على القرين وحده، فقارن ذلك بما ذهب إليه مالك – رحمه الله – من أن للزوج أن يستمتع بجهاز قرينته ويستخدم منه ما يجوز له استخدامه وحده أو برفقتها، ولو أنه في ثيابها ما يصلح لأن يلبسه جاز له لبسه وله حرمها من إخراج الجهاز من ملكها ببيع أو هبة لأن هذا يمض فوقه حق استمتاعه به،
وقيل لها بيعه في أعقاب مضي فترة تكفي لانتفاع القرين به وقدر هذا بأكثر من سنة وقيل أربع أعوام وإذا بلي الجهاز باستخدامه فلا يلزمه بدله فلو مستجدين ما بلي منه ثم طلقها فلا يحكم لها بأخذه إلا أن هو ملك للزوج. [(3)]
دين النفقة
28 – إذا مضت مرحلة من الوقت لم ينفق فيها القرين على قرينته فهل تصير نفقتها في ذاك الدهر الذي رحل عن من دون إنفاق دينًا في ذمته ؟ أما على مذهب أصحابنا – رحمهم الله – فالحكم على ذاك التفصيل:
( أ ) إن لم تكن النفقة مفروضة لها لا بقضاء قاضٍ ولا بتراضٍ بينهما وبين قرينها وقد رحل عن على عدم الإنفاق فوق منها شهر فأكثر فلا تصير النفقة دينًا في تلك الظرف ولا يطالب بها القرين مهما طال الدهر لأنها علاقة وليست بعوض حقيقي ولم يبقى ما يقوي الوجوب فيها.
(ب) أن تكون مفروضة بالتراضي أو بقضاء القاضي وفي تلك الوضعية تتقوى قليل من الشيء فتصير دينًا في ذمة القرين لكنه دين واهن فكما يسقط بالتأدية أو الإبراء أيضاً يسقط بالنشوز وبالموت وبالطلاق على تفصيل في عدد محدود من ذاك، وأيضا نفقة أدنى من شهر إن لم تكن متراضى أعلاها أو مقضيًا بها، وعللوا ذاك بأن المرأة لا تتمكن من تنفيذ نفقتها سوى حتى الآن مضي فترة قبل القضاء بها، وما دون الشهر كافٍ لهذا، وما دون الشهر متعجل.
(ج) أن تكون مفروضة بالقضاء أو التراضي وقد أمرها القرين أو القاضي بالاستدانة وفي تلك الظرف تكون النفقة دينًا صحيحًا في ذمة القرين لا تسقط سوى بالتأدية أو الإبراء.
و كان قد المجهود في محاكمنا القانونية المصرية على ذلك حتى صدر التشريع رقم (25) سنة 1920 فجعل نفقة القرينة والمعتدة في جميع أحوالها دينًا صحيحًا راسخًا في الذمة.
29 – وأما على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، فإن نفقة القرينة لا تسقط بمضي الوقت، وبيّن ذاك في المهذب بأنها ملكية وجب على طريق البدل في تم عقده معاوضة فلا يسقط بمضي الزمان، والحاصل أن اختلاف المنظور في سمة نفقة القرينة أفضى إلى الجدل في سقوطها، فمن رأى أنها معاوضة لم يسقطها مثلما هو شأن الإبدال في المعاوضات، ومن أفاد إنها رابطة أسقطها ما لم تتقوا بقضاء أو تراضٍ ثم وجّه بالاستدانة من القرين أو القاضي وانظر ذلك البحث في الهدي ولقد أطال القول فيه وانتهى به الخطبة إلى ترجيح مذهب القائلين بالتداعي بمضي الدهر.
هل يفرق بين الزوجين جراء إعسار القرين بالنفقة ؟
ثلاثين – ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين أنه لا تفرقة بين الزوجين جراء إعسار القرين لكن ينبغي المرأة الجلَد وتخص النفقة بذمة القرين وصرح في الهدي أن ذاك هو مذهب أهل الجلي عامتهم، ومن خطاب السلف الصالح في هذا قول عمر بن عبد العزيز – رضي الله سبحانه وتعالى عنه – هي امرأة ابتليت فلتصبر، وقول محمد بن شهاب الزهري تستأني بزوجها ولا يفرق بينهما، وقرأ كلامه إيتي (لا يكلف الله نفسًا سوى ما أتاها)،
وقول تم منحه ليس لها سوى ما وجدت ليس لها أن يطلقها، وقول الحسن البصري: تواسيه وتتقي الله وتصبر وينفق فوق منها ما تمَكّن، وعللوا هذا بأن التمييز بين الزوجين نتيجة لـ الإعسار يمض على القرين ملك التمتع فلا يبلغ إليه ثانيًا سوى جراء مودرن، بل لو أبقينا الزواج لا يمض حق المرأة في النفقة إلا أن يتأخر لأن النفقة تصير دينًا في ذمة القرين بفرض القاضي فيستوفي منه في الدهر المستقبل، فوجب أن يحمل على عاتقه أسفل الضررين لدفع أعلاهما، وهذا قلنا بعدم التفرقة وأمرناها بالاستدانة وأوجبنا الإدانة على من تجب فوقه نفقتها لو لم يكن لها قرين، ثم يعود على القرين إذا أيسر.
31 – وذهب متابعين علماء الشريعة على أن القرين إذا أعسر بنفقة قرينته واختارت فراقه فرق بينهما، وعلى ذلك القول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، بل التفرقة بينهما على قول أحمد فسخ لا رجعة للزوج بعده وأن أيسر في العدة، ولو أن القاضي لم يفسخ إلا أن أجبر القرين على إنفصالها بالطلاق فطلقها رجعيًا فله رجعتها، فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق فوق منها فطلبت الفسخ فسخ أعلاه ثانيًا وثالثًا،
وإن قبِلت بالمقام برفقته على عسرته ثم بدا لها الفسخ أو تزوجته عالمة بعسرته ثم اختارت الفسخ فلها ذاك وهو مذهب الشافعي أيضًا لأن النفقة يتجدد وجوبها يومياً فيتجدد حق الفسخ، وقيل ليس لها في الموضعين، وهو قول مالك – رحمه الله – لأنها قبِلت بعيبه ودخلت في الاتفاق المكتوب عالمة به، وعلى قول مالك يكون التمييز بينهما بطلقة رجعية فللزوج الرجعة إذا كانت المرأة مدخولاً بها ووجد القرين يسارًا في العدة يقوم بواجب مثلها عادةً لا دونه وإلا فليس له الرجعة لكن لا تصح، وأما على مذهب الشافعي – رحمه الله – فقيل إن الوالي يطلق فوقه طلقة رجعية، فإن راجعها طلق فوقه ثانية، فإن راجعها طلق أعلاه ثالثة وقيل أنه فسخ.
وهل لها الفسخ مباشرة أو تترقب ؟ قيل بالأول لأنه فسخ لتعذر العوض فتثبت مباشرة كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالقيم، وقيل إنه يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر غدا، وغير ممكن إمهاله أكثر من هذا لأنه قد يتسبب في الإضرار بالمرأة،
ولا يمكن الفسخ سوى بالحاكم لأنه فسخ متباين فيه فلا يصح بغير الوالي، وحكى في الهدي عن عمر بن عبد العزيز أن الوالي يؤجله شهرًا أو شهرين، وحكي عن حماد بن سليمان أنه يؤجله سنة، واتفقوا إلى أن الإعسار بنفقة الخادم لا يثبت لها حق الفسخ لأن النفس تقوم بغير خادم، والمرأة يمكن لها التحمل عنها، ولذا هو الشهير من مذهب مالك.
وقد إنتهاج الدستور رقم (25) سنة 1920 بمذهب مالك في تلك الشأن، وحجة المتابعين على ما ذهبوا إليه أن القرين إذا أعسر بالنفقة ولقد عجز عن الإمساك بالمعروف فوجب التسريح بالإحسان فإن لم يفعل نهض مقامه الوالي في هذا لما له من ولاية إعزاز البغي، وازداد مالك – رحمه الله – على ذاك أن جماعة المسلمين التحور يقومون مقام الوالي في ذاك وفي جميع وجّه يتعذر الوصول فيه إلى الوالي أو لأنه يكون غير عدل إلا أن الشخص كافٍ لهذا، واحتجوا أيضًا بما رواه أبو هريرة عن النبي – عليه الصلاة والسلام – في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أفاد (يفرق بينهما).
32 – وفي تلك الموضوع ثلاثة وجهات نظر أخرى أذكرها هنا تتميمًا للبحث:
( أ ) صرح أبو محمد بن حزم في الأهلي: إذا عجز القرين عن نفقة ذاته، وامرأته غنية قامت بتكليف النفقة أعلاه ولا تعود بشيء من ذاك فوق منه إذا أيسر أهـ.
ولا يخفي ما في ذلك القول من إحكام صلة المودة والرحمة بين الزوجين حتى لكأنهما فرد فرد.
(ب) ما حكوه عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو أن القرين إذا أعسر بالنفقة إعتقل حتى يجد ما ينفقه، وقد استبعد ابن القيم ذلك القول كل الإقصاء، فقال يا لله العجب لأي شيء يسجن ويجمع أعلاه من شقاء السجن وكرب الفقر وإيذاء البقاء بعيدا عن أهله سبحانك ذاك بهتان هائل وما أظن من شم رائحة العلم يقول ذلك. أهـ.
(ج) ما اختاره ابن القيم بعدما محص كل الافكار صرح: والذي تقتضيه مناشئ الشريعة وقواعدها في تلك الأمر أن الرجل إذا غر المرأة بأنه صاحب ثروة فتزوجته على ذاك فظهر معدمًا لا شيء له أو كان ذا ملكية وترك الإنفاق على امرأته ولم تقدر على إنتهاج كفايتها من ثروته بشخصها ولا بالحاكم أن لها الفسخ، وأن تزوجته عالمة بعسرته أو كان موسرًا ثم إصابته بلاء اجتاحت ثروته فلا فسخ لها، ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة عقب الأيسر ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن أهـ ولعل ذاك القول هو أعدل الأقوال.
نفقة المعتدة
33 – العدة إما أن تكون من طلاق رجعي أو من طلاق بائن أو من فسخ أو من مصرع قرين.
فعلى مذهب والدي حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – تثبت النفقة لجميع معتدة من نكاح صحيح سوى لاثنتين معتدة الهلاك والمعتدة جراء فرقة جاءت من ناحيتها بتصرف هو معصية كأن تفعل ما يحتم تحريم المصاهرة بأحد مصادر القرين أو واحد من فروعه أو يكون دافع الفرقة ردتها، وبينما عدا هاتين الحالتين فللمعتدة نفقتها ما استمرت العدة لا فرق في ذاك بين طلاق رجعي وطلاق بائن وفسخ، وعللوا هذا بأن النفقة واجبة لها إجراء تأديبي احتباسها،
واحتباسها ما زال جاريًا بقيام العدة وسبب وقوع نفقة المعتدة جراء فرقة منها هي معصية عقوبتها على ما صنعت وأما المتوفى قرينها خسر أفادوا إن تربصها إنما هو عبادة لحق الشرع لا لحق القرين، أقول وقد تكون سبب هذا أن الزواج تعاقد شخصي فلا يجب بأحكامه غير المتعاقدين، وبعد وفاة القرين ينتقل ثروته إلى غيره من دائنين وموصى لهم وورثة فلم يبقَ لزوجته حق فيه بموجب قسيمة الزواج غير الميراث بحكم الشرع وإنما تجب فوقها السكنى والمبيت في المنزل الذي كانت تسكنه مع قرينها حتى تنتهي عدتها ولا تطلع منه سوى لعذر على ما هو موضح في مقره.
34 – وقد حكى أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن عن عدد محدود من علماء السلف ضرورة النفقة لقرينة المتوفى في تركته وأنها تعد من الحقوق المرتبطة بالتركة أهـ. وأقول لا يوجد شك إن ذلك نظر حسن جدًا وهذا لأنها لما قامت باحتجاز عن الأزواج مرحلة العدة كان من الموائم جدًا أن ينفق أعلاها في هذه الفترة من ملكية من احتبست على إثره حيث لا إختلاف بين قام باحتجاز واحتجز فإن لم يدع مالاً فنفقتها في تلك الظرف على ذاتها واجبة فوقها إن قدرت فوقها أو على أقاربها على ما هو موضح في مصروفات ذوي القرابة.
35 – ومما توفر يتبين لك أن نفقة المعتدة الواجبة لها يظل وجوبها لها ما بقيت العدة لامتناع تخلف المعلول عن علته، إلا أن حكمت المادة السابعة 10 من الأمر التنظيمي بقانون رقم (25) سنة 1929 بأنه لا تسمع الدعوى بنفقة عديدة لفترة تزيد على سنة من تاريخ فسخ العلاقة الزوجية أهـ واعتبروا ذاك من باب تخصيص القضاء، وأقول إن تلك تكأة هزيلة جدًا وتشريع غير راسخ قد لجأوا إليه زيادة عن مرة حتى كادوا يخرجون به عن معنى تخصيص القضاء، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – ومن العجب هنا أنهم يعترفون بالسبب – ولو مغزى لضرورة نفقة العدة وهو قيام العدة – ثم يغضون البصر عن الآثار الناتجة عنه شرعًا وهي من لوازمه حتمًا اعتمادًا على ذلك الذي فخامته تخصيص القضاء حتى أدى بهم الموضوع إلى وحط أحكام تبدل بين العوامل ومسبباتها والعلل ومعلولاتها والأساسيات وملزوماتها ولذا الأمر الذي يأباه الشرع والذهن جميعًا، حتّى من راجع كتب الأئمة الأربعة وآخرين حتى المطبوع منها والمتداول بين أيدينا وجد فيها متسعًا جسيمًا لحل ذلك الإشكال وغيره من دون تفكيك ولا اختلال، والهادي هو الله.
36 – وعلى ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة ومشاهدين ضخم من الفقهاء أن المعتدة من طلاق رجعي تجب لها النفقة والكسوة والسكنى لقيام الدافع الإيجابي لذا كالزوجة تمامًا سوى في قليل من أشياء استثنوها تعرفها بمراجعة كتبهم بنوها على ما لاحظوه من الإختلاف بين القرينة والمعتدة لطلاق رجعي.
وأما المبانة (المبتوتة) فلا نفقة لها باتفاق سوى إذا كانت حاملاً واستدلوا بما ري عن النبي – عليه الصلاة والسلام – أنه أفاد (إنما النفقة والسكنى للمرأة لو أنه لزوجها أعلاها الرجعة) – انظر الهدي وكشاف القناع والدراري المضيئة – وتحدث ابن القيم: إن ذلك الحكم مستفاد من كتاب الله سبحانه وتعالى ومفسر له ثم صرح: إن النفقة إنما تكون للزوجة فإذا بانت من قرينها صرت أجنبية حكمها حكم مختلَف الأجنبيات ولم يبقَ سوى محض اعتدادها منه ولذا لا يحتم لها نفقة كالموطوءة بشبهة، ولأن النفقة لو وجبت لها من أجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها قرينها من ثروته ولا فرق بينهما البتة فإن كل واحدة منهما قد بانت عنه وهي معتدة منه وقد تعذر التلذذ بها، ولأنه لو وجبت لها السكنى لوجبت لها النفقة
مثلما يقوله من يوجبها فأما أن تجب لها السكنى دون النفقة فالنص والقياس يدفعه أهـ ولذا مذهب القائلين بأن المبانة إذا كانت حائلاً فلا نفقة لها ولا سكنى، وقد حكاه ابن القيم عن ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة طفلة قيس واحدة من فقهاء إناث الصحابة وقد كانت تناظر في هذا، وبه صرح أحمد بن حنبل وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأصحابه وداود بن علي وأصحابه وعموم أهل الحوار أهـ ووافقهم الإمامان مالك والشافعي في عدم ضرورة النفقة لها لكنهما أوجبا لها السكنى، ويقول والدي حنيفة وأصحابه في ضرورة النفقة والسكنى للمبانة أفاد عمر بن الكلام وعبد الله بن مسعود – رضي الله سبحانه وتعالى عنهما -.
37 – وأقول إن تلك الموضوع قد اتسع فيها ميدان القول بين الفقهاء اتساعًا عارمًا جدًا كل يجادل عن رأيه أو مذهب إمامه ويحاول مساندته، والمصدر في هذا عصري فاطمة طفلة قيس المروي في الصحيحين وغيرهما من متعددة أساليب موضوع في بعضهما على نفي النفقة والسكنى جميعًا وفي بعضها موضوع على نفي النفقة ليس إلا، وقد إتخاذ به عدد محدود من الفقهاء وطعن بعضهم فيه من لدن عهد الصحابة فمن بعدهم فليراجع هذا من شاء في الهداية وفتح القدير والمبسوط والبدائع والتوضيح وعمدة القارئ وشرح الألوسي وأحكام القرآن للرازي، ذاك من ناحية، وفتح الباري ونيل الأوطار وتوضيح زهو الدين الرازي وازداد المعاد، من جهة أخرى، والحق أقول إن ابن القيم – رحمه الله – قد تكلم في تلك الشأن بكلام إذا لم يكن هو الصواب بعينه فهو أكثر قربا شيء إلى الصواب، وقد أحاط بالمسألة من كل أطرافها ووفى الخطاب حقه من كل وجه ورد مطاعن الطاعنين بما ليس وراءه قول لقائل (وكل الصيد في جوف الفرا) والله الموفق.
38 – وأما المبانة الحامل ولقد اتفق الأئمة الثلاثة إلى أن لها النفقة واستدلوا بقوله إيتي (وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، وبقوله – عليه الصلاة والسلام – لفاطمة طفلة قيس لما أبانها قرينها (لا نفقة لك بل تكوني حاملاً) ثم اختلفوا في أن النفقة هل وجبت لها نتيجة لـ الحمل أو وجبت للحمل ؟ فذهب مالك إلى أنها وجبت للحمل وإضافة إلى الشافعي في مذهبه البالي وأحمد في حكاية مصححه عنه ولعلها أرجح الروايتين، وذهب الشافعي في الجديد وأحمد في قصة أخرى مصححه أيضًا موضوع فوق منها في تعديل التقسيمات على أن النفقة للحالم نتيجة لـ الحمل وقد نشأ عن ذاك الجدل اختلاف في التفريعات يتضح لك بمراجعة كتب تلك المذاهب لا يتسع لا يرادها المقام، وأما السكنى فهي واجبة لها على قول الإمام أحمد وإضافة إلى على قول الإمامين مالك والشافعي بالأولى.
39 – وأما المتوفى قرينها فليس لها النفقة على قول أصحابنا مثلما قدمناه، وقد علمت أيضًا الأمر الذي توفر ما حكاه أبو بكر الرازي من أن لها النفقة على قول قليل من علماء السلف، وأن على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة فلا نفقة لها في تركة قرينها لأن التركة انتقلت إلى الورثة ولا دافع للوجوب فوق منها ولأن النفقة إنما وجبت للزوجة في مواجهة الترسيخ من التمتع وقد فات هذا بموت القرين ولا تجب لها من أجل الحمل لأن الميت لا يلزم أعلاه شيء لغيره ولأنها لو وجبت للحمل فهي من نفقة القريب على قريبه والموت يسقط هذا لو أنه لازمًا قبله فلا ينبغي بعده ابتداءً ولأن الحمل وارث فنفقته من ميراثه هو وأما السكنى فهي واجبة لها على قول مالك ولا سكنى لها على قول أحمد، وللشافعي في ذاك قولان: أظهرهما إن لها السكنى.
وقد مقال ابن جزي في قوانينه إلى أن المتوفى عنها قرينها لا نفقة لها لا من ملكية قرينها ولا من حظ الحمل من الميراث، ونص في الإقناع وكشاف القناع حتّى الحامل المتوفى عنها قرينها ينفق أعلاها من نصيب الحمل من التركة وذلك يشير إلى ثبوت ملك الحمل من يوم وفاة مورثه، وإنما بخروجه حيًا يتبين ذاك، ومن هنا يتبين لك الإختلاف بين مذهب أحمد ومذهب مالك في اعتبار أن النفقة للحمل، وأما على القول الآخر للشافعي فلا تجب النفقة للحمل على أبيه عقب هلاكه أهـ.
وسنتكلم في العدد القادم على بقية أحكام المصاريف إن شاء الله
أحمد إبراهيم
6 ذي العقدة سنة 1348،
5 إبريل سنة 1930.
[(1)] الخادم فرد الخدم يطلق على الذكر والأنثى لإجرائه مسار الأسماء غير المأخوذة من الممارسات تقول ذاك خادم وتلك خادم.
[(2)] تقول أشكيت فلانًا قبلت شكواه وأرضيته، وذلك هو المرغوب هنا، وله معانٍ أخرى.
[(3)] الجهاز بفتح الجيم ما يهيأ ويحتسب للعروس من فرش وغيره ويقال له الشوار بتثليث الشين ومعناه في اللغة متاع المنزل المستحسن ولفظ الجهاز هو المستخدم في كتب الحنفية وأهل العاصمة المصرية القاهرة لا يعرفون غيره وإما الشوار (وإضافة إلى الشورة) فهو المستهلك في كتب المالكية وأهل الإسكندرية وإضافة إلى أهل الأرياف ويشتقون منه حقاً فيقولون شورها أي جهزها.
Originally posted 2021-11-27 20:11:07.